لذي يسكن في أعماق الصحراء يشكو مر الشكوى لأنه لا يجد الماء الصالح للشرب
و ساكن الزمالك الذي يجد الماء و النور و السخان و التكييف و التليفون و
التليفزيون لو استمعت إليه لوجدته يشكو مر الشكوى هو الآخر من سوء الهضم و السكر و
الضغط
و المليونير ساكن باريس الذي يجد كل ما يحلم به ، يشكو الكآبة و الخوف من
الأماكن المغلقة و الوسواس و الأرق و القلق
و الذي أعطاه الله الصحة و المال و الزوجة الجميلة يشك في زوجته الجميلة و
لا يعرف طعم الراحة
و الرجل الناجح المشهور النجم الذي حالفه الحظ في كل شيء و انتصر في كل
معركة لم يستطع أن ينتصر على ضعفه و خضوعه للمخدر فأدمن الكوكايين و انتهى إلى
الدمار
و الملك الذي يملك الأقدار و المصائر و الرقاب تراه عبداً لشهوته خادماً
لأطماعه ذليلاً لنزواته
و بطل المصارعة أصابه تضخم في القلب نتيجة تضخم في العضلات
كلنا نخرج من الدنيا بحظوظ متقاربة برغم ما يبدو في الظاهر من بعد الفوارق
و برغم غنى الأغنياء و فقر الفقراء فمحصولهم النهائي من السعادة و الشقاء
الدنيوي متقارب
فالله يأخذ بقدر ما يعطي و يعوض بقدر ما يحرم و ييسر بقدر ما يعسر .. و لو
دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه و لرأى عدل الموازين الباطنية برغم اختلال
الموازين الظاهرية.. و لما شعر بحسد و لا بحقد و لا بزهو و لا بغرور
إنما هذه القصور و الجواهر و الحلي و اللآلئ مجرد ديكور خارجي من ورق اللعب
.. و في داخل القلوب التي ترقد فيها تسكن الحسرات و الآهات الملتاعة
و الحاسدون و الحاقدون و المغترون و الفرحون مخدوعون في الظواهر غافلون عن
الحقائق
و لو أدرك السارق هذا الإدراك لما سرق و لو أدركه القاتل لما قتل و لو عرفه
الكذاب لما كذب
و لو علمناه حق العلم لطلبنا الدنيا بعزة الأنفس و لسعينا في العيش بالضمير
و لتعاشرنا بالفضيلة فلا غالب في الدنيا و لا مغلوب في الحقيقة و الحظوظ كما قلنا
متقاربة في باطن الأمر و محصولنا من الشقاء و السعادة متقارب برغم الفوارق الظاهرة
بين الطبقات .. فالعذاب ليس له طبقة و إنما هو قاسم مشترك بين الكل .. يتجرع منه
كل واحد كأساً وافية ثم في النهاية تتساوى الكؤوس برغم اختلاف المناظر و تباين
الدرجات و الهيئات
و ليس اختلاف نفوسنا هو اختلاف سعادة و شقاء و إنما اختلاف مواقف .. فهناك
نفس تعلو على شقائها و تتجاوزه و ترى فيه الحكمة و العبرة و تلك نفوس مستنيرة ترى
العدل و الجمال في كل شيء و تحب الخالق في كل أفعاله .. و هناك نفوس تمضغ شقاءها و
تجتره و تحوله إلى حقد أسود و حسد أكال .. و تلك هي النفوس المظلمة الكافرة
بخالقها المتمردة على أفعاله
و كل نفس تمهد بموقفها لمصيرها النهائي في العالم الآخر .. حيث يكون الشقاء
الحقيقي .. أو السعادة الحقيقية .. فأهل الرضا إلى النعيم و أهل الحقد إلى الجحيم
أما الدنيا فليس فيها نعيم و لا جحيم إلا بحكم الظاهر فقط بينما في الحقيقة
تتساوى الكؤوس التي يتجرعها الكل .. و الكل في تعب
إنما الدنيا امتحان لإبراز المواقف .. فما اختلفت النفوس إلا بمواقفها و ما
تفاضلت إلا بمواقفها ، و ليس بالشقاء و النعيم اختلفت و لا بالحظوظ المتفاوتة
تفاضلت و لا بما يبدو على الوجوه من ضحك و بكاء تنوعت
فذلك هو المسرح الظاهر الخادع ، و تلك هي لبسة الديكور و الثياب التنكرية
التي يرتديها الأبطال حيث يبدو أحدنا ملكاو الآخر صعلوكا و حيث يتفاوت أمامنا
المتخم و المحروم
أما وراء الكواليس
أما على مسرح القلوب
أما في كوامن الأسرار و على مسرح الحق و الحقيقة .. فلا يوجد ظالم و لا
مظلوم و لا متخم و لا محروم .. و إنما عدل مطلق و استحقاق نزيه يجري على سنن ثابتة
لا تتخلف حيث يمد الله يد السلوى الخفية يحنو بها على المحروم و ينير بها ضمائر
العميان و يلاطف أهل المسكنة و يؤنس الأيتام و المتوحدين في الخلوات و يعوض
الصابرين حلاوة في قلوبهم .. ثم يميل بيد القبض و الخفض فيطمس على بصائر المترفين
و يوهن قلوب المتخمين و يؤرق عيون الظالمين و يرهل أبدان المسرفين .. و تلك هي
الرياح الخفية المنذرة التي تهب من الجحيم و النسمات المبشرة التي تأتي من الجنة
.. و المقدمات التي تسبق اليوم الموعود .. يوم تنكشف الأستار و تهتك الحجب و تفترق
المصائر إلى شقاء حق و إلى نعيم حق .. يوم لا تنفع معذرة .. و لا تجدي تذكرة
و أهل الحكمة في راحة لأنهم أدركوا هذا بعقولهم و أهل الله في راحة لأنهم
أسلموا إلى الله في ثقة و قبلوا ما يجريه عليهم و رأوا في أفعاله عدلاً مطلقاً دون
أن يتعبوا عقولهم فأراحو عقولهم أيضاً ، فجمعوا لأنفسهم بين الراحتين راحة القلب و
راحة العقل فأثمرت الراحتان راحة ثالثة هي راحة البدن .. بينما شقى أصحاب العقول
بمجادلاتهم
أما أهل الغفلة و هم الأغلبية الغالبة فمازالوا يقتل بعضهم بعضا من أجل
اللقمة و المرأة و الدرهم و فدان الأرض ، ثم لا يجمعون شيئاً إلا مزيداً من الهموم
و أحمالاً من الخطايا و ظمأً لا يرتوي و جوعاً لا يشبع
فانظر من أي طائفة من هؤلاء أنت .. و اغلق عليك بابك و ابك على خطيئتك
■ ■ ■
بقلم : د. مصطفــــى محمــــود
من كتاب أناشيــــــد الإثم و
البراءة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق