السبت، 22 سبتمبر 2012

" مصر .. المشكلة و الحل " .. د/ مصطفى محمود .. من كتاب : " أيها السادة اخلعوا الأقنعة "



المقال الرابع و الأخير
 
مصر .. المشكلة و الحل

كنا جماعة نتحدث ، و تطرق بنا الحديث إلى كل شيء .. تحدثنا في الدين و في السياسة و في الفضاء و في الأرواح و في الجن و في السحر و في الطب و طوفنا بكل الألغاز و المعضلات ثم .. استقر بنا الترحال عند المعضلة الكبرى التي دوخت المصلحين و حيرت أهل الفتاوى .. مشكلة مصر و ما جرى عليها و ما جرى لها .

...
قالت أصوات رافضة : هل تعجبك هذه المعارك الكلامية و العمارات التي تقع و الزحام و الغلاء و فساد الذمم و فتور الهمم و التلوث و الضوضاء و انحدار الذوق و ضياع القيم و اللامبالاة و الكسل و الرشوة و التسيب .. هل هذه مصر التي عرفناها ؟

قلت : مصر ليست كلها سلبيات .. و ما زال في بلدنا خير و حب و أمل و أيد تعمل في إخلاص .. و في مصر مدن جديدة برمتها أنشئت و صحارى جرداء استصلحت و سدود أقيمت و مصانع بنيت ، و الأرقام تقول إن هناك أكثر من ألف مشروع جديد منها خمسمائة و خمسون مشروعاً بدأت نشاطها بالفعل و لكن الآثار الإيجابية لهذه الإنجازات تلتهمها ملايين الأفواه التي تأكل دون أن تعمل .. الإنفجار السكاني يهزم الخطة .

-
هل هو اعتراف بأن السلبيات تفوق الإيجابيات ؟
-
مصر خارجة من خمس حروب و مائة ألف شهيد .. و مائة ألف مليون جنيه خسائر و هي محل تآمر دول الشرق و الغرب و محل أطماع الأعداء و الأصدقاء يطعنها أبناؤها كما يطعن بعضهم بعضاً و كأنما الكل فقد وعيه ..
إن حرباً واحدة جعلت انجلترا و هي دولة كبرى تتراجع إلى مؤخرى الصف .. و نحن بلد صغير محدود الموارد .. نحن في حاجة إلى وقفة حب و تفهم يا إخوان و ليس إلى وقفة تمرد و سخط .

-
و نحن نسأل بكل الحب و التفهم ما الحل ؟

و اختلفنا و تشابكنا و ارتفعت أيد و جاء كل واحد برأي .. كان من الواضح أننا أمام مشكلة أصعب من الجن و الأرواح و الصعود إلى الفضاء ..

قال قائل : الحكم الإسلامي هو الحل .

و اعترض أحدهم قائلاً : لقد نادى بذلك جماعة التكفير و الهجرة و قتلوا الشيخ الذهبي و نادى بذلك جماعة الفنية العسكرية و اطلقوا الرصاص على الأبرياء .. و نادى بذلك المهدي و جماعته و طلعوا بالمدافع الرشاشة على الكعبة و قتلوا من قتلوا بلا ذنب و بلا جريرة .. و نادى بذلك الخوميني و قاد حكماً دموياً فاشياً في إيران .. فأي هذه الدعوات هي الحل لما نحن فيه ؟

إن أمريكا و روسيا أصبحتا تشجعان هذه التيارات المتطرفة و تحضان عليها لتلقيا بالمنطقة إلى حالة من الفوضى و الخراب و التناحر و إلى حالة من التبعية المستمرة و لتبيعا السلاح إلى جميع الأطراف .

قال آخر : ليس هذه النماذج هي الحكم الإسلامي الذي نريده .. إنما نريد الحكم الإسلامي الرشيد .

قال صاحبنا : كل واحد من هؤلاء الذين اعترضت عليهم يدعي أنه هو الرشيد و ما زال الخوميني يدعي أنه على الحق و أن كل من خالفوه على ضلال .

قال ثالث : بل نبدأ من البداية .. قيحقق كل منا الحكم الإسلامي في نفسه و في سلوكه و عمله و خلقه و بيته و أهله و أصدقائه و جيرانه .. فالثورة المطلوبة ليست هي الإنقلاب العسكري و لا هي الجماعة التي تطلع على الناس بالعنف .. و إنما الثورة المطلوبة هي ثورة كل منا على نفسه ليفتح صفحة جديدة يراقب فيها ضميره و يراعي ربه ، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة التحول الاجتماعي مصداقاً لقول القرآن : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) .. فتغيير الأنفس يأتي أولاً .

قلت : هذا و الله كلام حسن .. و لكن ما لبث أن قاطعنا صوت حاد يهتف : لا فائدة من إصلاح النفس ما دام الشارع كافراً و المجتمع ضالاً .

قلت مستنكراً : كيف يقال هذا الكلام عن قاهرة الأزهر .. ليس الشارع بكافر ، و إنما هي انحرافات على الأكثر .. و حتى على فرض صدق كلامك .. فإن المسلم يستطيع أن يعبد الله و يفعل الخير و يلازم الجادة حتى بين كثرة كافرة .. و هل كان محمد عليه الصلاة و السلام و صحبه إلا قلة من عشرات في بحر طام من الكفر في قريش و هل زادتهم هذه الكثرة إلا تثبيتاً .. فما بالك و نحن في قاهرة الألف مسجد و في مناخ يشجع على الدين و تتجاوب فيه أصداء لا إله إلا الله محمد رسول الله من ألف مئذنة .

قال : و الطبل و الزمر و الرقص في التليفزيون .
قلت : تستطيع أن تغلقه و تفتح قناة أخرى فيها الشعرواي .. و تستمع إلى إذاعة القرآن الكريم أو تذهب إلى المسجد و تحضر درساً دينياً أو تشارك في ندوة علمية أو تغلق عليك بابك و تصلي .. عندك عشرات الإختيارات و ستجد في كل منها ما يشجع نواياك الخيرة .. هذا إذا كانت عندك هذه النوايا .

و البدء بالنفس هو الطريق .. لن تستطيع أن تحكم غيرك إلا إذا حكمت نفسك أولاً .. و لن تقوى على تغيير أمة و أنت عاجز عن تغيير نفسك .. قد يطول المشوار و لكنه السبيل الوحيد .. و هو الكفيل بتربية الجيل المسلم الذي سوف يخرج منه الطلائع التي سوف تقود حينما يجيء الوقت .

قالت امرأة : و لماذا الإصرار على الحكم الإسلامي كحل .. إن اليابان خرجت من الخراب و الدمار الكامل و الهزيمة و بلغت الصدارة في بضع سنوات ، و وصلت إلى أعلى معدلات الرخاء و الإنتاج بدون حكم إسلامي .. و كذلك ألمانيا ..

قلت لها : تجربة اليابان كشفت عن حقيقة مؤكدة .. إن العمل عند هؤلاء الناس دين .. العمل و النظام و طاعة الصغير للكبير و حب الأرض و الولاء للوطن .. كل هذه شعائر دينية عند الياباني يمارسها بإخلاص و تفان .. و في ألمانيا حب العلم و حب الإختراع خلق ، و الطاعة و النظام طباع مثل طباع مجتمعات النمل ..

أما نحن فنفتقر إلى هذه الصفات و نحاول أن نغرسها في الشباب عن طريق الإسلام لأن الإسلام يأمر بالنظام و يأمر بالنظافة و يأمر بطاعة الصغير للكبير فهو سيوفر علينا غرس هذه الطباع ..

ثم إن الإسلام بإمكانه أن يستوعب النموذج الياباني و النموذج الألماني ثم يتخطى الإثنين و يتجاوزهما إلى عطاء أعظم و أرحب ، فالتجربة اليابانية بكل نجاحها لا تمثل إلا الجانب المادي و العطاء المادي و الحضارة المادية و هذه الحضارة تقف عند مجرد إشباع حاجات الإنسان و لكنها لا تستطيع أن تتجاوزه فلا شيء عندها وراء الإنسان و لا شيء وراء العالم .. إنما هي حياة تنتهي بموت صاحبها ، و لا حكمة من أي شيء ..

و التقدم مجرد تقدم كمي .. و المستقبل مجرد امتداد كمي للماضي .. و الحياة اكتفائية تسجن الإنسان في أنانيته و مصالحه و رغباته و الإنسان فيها حيوان برغم أن له مخالب ذرية و عيوناً إليكترونية إلا أنه مازال حيواناً واقفاً عند نفسه ..

أما الإسلام فحضارة تصعد بالإنسان و تتخطى به عتبة نفسه لتخرج به إلى المطلق .. إلى كمالات الله اللانهائية .. فالنفس في الإسلام خالدة و هي في كدح مستمر إلى الله .. و هي في تكامل مستمر مرحلة بعد مرحلة .. و الفرق كبير و هائل بين ما تعد به التجربة اليابانية و ما تعد به العقيدة الإسلامية ..

فتلك حضارة مادية مغلقة على نفسها و هذه حضارة مفتوحة على اللانهائية .

قال واحد : و لكن المؤسف أننا لا نحن وصلنا إلى عظمة اليابان و لا نحن بلغنا عظمة الإسلام .

قلت : الذنب ليس ذنب الإسلام و لكن الذنب فيما نضيع من وقت في الكلام و الخلافات لقد جعلنا كل شيء محل خلاف حتى الإسلام اختلفنا فيه و عليه ..

فحرم البعض الموسيقى و الرسم و قالوا إن الصورة التي تعلق على الحائط كفر ، و الجندي الذي يقبل راية وطنه وثني ، و المسلم الذي يصلي الفروض الخمسة في بيته و لا يصليها في المسجد لا إسلام له ، و الحجاب لا يكفي و لابد من النقاب ، و تعاركنا على القشور و تركنا اللباب ، و غالى البعض حتى حرم الخل و حرم زهور الزينة لأنها تقليد لصنعة الله ، و حرم أكل دجاج الجمعية لأنه مذبوح في بلاد الكفر ..

و خرج من ســمــــاحة الإسلام إلى أنواع من التزمت و التنطع السخيف .

و مطلوب بالدرجة الأولى وعي إسلامي مستنير يجمع الناس حول لب العقيدة و رؤية إسلامية رحبة تستوعب إيجابيات العصر .. و أدب في الحوار يكسب الخصم قبل الصديق .. و حرب على الفرق الضالة التي تزيف الدين و تحرم كل شيء باسمه .

إن هذه التيارات التي تظهر هنا و هناك لتبث الفرقة و تثير الجدل هي جزء من المؤامرة التي تحاول أن تمزق الراية الوحيدة الباقية التي يمكن أن تجمعنا .. و هي تيارات عميلة تعمل لحساب الخصوم و إن تكلمت باسمنا .. و محاربتها واجب كل مفكر و كل حامل قلم .

لقد تكاثرت المشاكل و تفاقمت و لم يعد في قدرة الواحد أن يحلها منفرداً .. و لم يبقى إلا أن يتعاون الكل .. و لم تبق إلا بداية واحدة مأمونه هي صحوة كل مواطن و ثورته على نفسه و مبادرته الذاتية المخلصة لإصلاح شيء ، أي شيء .. في عمله و بيته و شارعه .. أي شيء و لو مجرد إماطة الأذى عن الطريق .

المهندس في موقعه و الطبيب في عيادته و المدرس بين تلاميذه و الأم بين أولادها و العامل في مصنعه .. لو حاسب كل منهم نفسه و استنهض همته و رعى ذمته و راقب ربه لاختلفت الصورة و لتغير وجه مصر .

إن الثورة على النفس مفتاح وحيد و لا مفتاح سواه .. و لن يغيرنا الله إلى أي حال إلا إذا غيرنا أنفسنا أولاً ..

و الخوف من العقاب عامل إضافي هام و الطمع في الثواب عامل آخر له وزنه و الحزم ضابط للصف و كلها موجبات المرحلة الحالية .. شريطة ألا تتجاوز الخيط الرفيع و تسلمنا إلى ديكتاتورية هوجاء و مراكز قوى عمياء تحكم بالمزاج و تفتي بالهوى و تعود بنا إلى مرحلة الستينيات التي كانت سبب البلاء كله .


و أي كلام غير ذلك هو عودة إلى مسلسلة التباكي و الوقوف على الأطلال ..


■ ■ ■

د. مصطفـى محمـــود
من كتاب : أيها السادة اخلعوا الأقنعة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق