الجمعة، 14 سبتمبر 2012

الله فى الإسلام .. / مصطفى محمود .. من كتاب " الله"



الشمس تأفل ..
والزهور تذبل ..
والربيع ينتهى إلى خريف .
والصحة تنتهى إلى مرض .
والحياة تنتهى إلى موت .
والإمبراطوريات تزدهر وتندثر.
والقارات يبتلعها المحيط .
والنجوم تنفجر فى فضاء الكون وتختفى .
وعالم الظواهر حولنا عالم خادع مخادع يتلون كالأكاذيب ويتحرك إلى زوال وفناء .. وكأنه رسوم على الماء أو نقش على رمال تذروها الرياح .
والله ليس من هذا العالم .. وإنما  " متعال "   عليه .. لا يمكن لله أن يمرض أو يشيخ أو يموت , ولا يصح أن نتصوره وهماً باطلا مثل ثائر الأشياء .. فهو " متعال" على ذلك كله .
العالم باطل .
والله حق .
العالم زائل .
والله دائم .
العالم متغير .
والله ثابت .
العالم سجين فى حدود الزمان والمكان .
والله متعال على الزمان والمكان .. لا يتحيز فى مكان فليس له حجم ولا مواصفات مكانية .. ولا يمكن أن يقال إنه فوق أو تحت أو عن يمين أو شمال .. أو داخل أو خارج .
وهو لهذا لا يحل فى بدن ولا يتحيز فى حيز ولا يتجسد فى صورة أو شكل .
ولأنه متعال على الزمان فإنه ليس له عمر وليس له بدانة أو نهاية وليس له ماض وحاضر ومستقبل .. وإنما هو حضور مطلق .. وآن مستمر .. وديمومة أبدية .. ماثلة فى الغيب والشهادة على الدوام .
ولا يصح أن نقول عنه إنه ينمو أو يتطور أو يكبر أو يتضخم أو يزداد فى القوة  أو يتكامل .. لأنه الكامل أبداً .
ولأنه منزه عن الزمان والمكان .. فهو لا يتحرك ولا ينتقل .. وإنما هو ساكن سكوناً مطلقاً .. صامد .. وكل من حوله يضطرب .. وهذا معنى " الصمد " أى الثابت ثباتاً مطلقاً .. ولهذا فهو الملجأ والأمان من خضم الاضطراب , تلقى النفس إليه مراسيها كما ترسو السفن وتلقى بمراسيها إلى القاع الساكن وتستمد ثباتها من ثباته .. فهو الصمد الذى يصمد إليه .
نحن فى القيد ( الزمان والمكان ) .
والله فى الإطلاق ( الأزل والأبد ) ليس له مبتدأ ولا منتهى ولا حدود .
وهو " اللطيف " منتهى اللطف ليس له جسم ولا مادة ولا كتلة ولا ثقل وهذا هو معنى " اللطيف " أى الخفاء المطلق .
" اللطيف " هو الذى ليس له جسم أو ثقل أو كثافة تعوقه .. ومن ثم فهو يتخلل كل شىء فى حضور كامل مع كل شىء فى كل وقت فى خفاء واستسرار : لا تدكه الأبصار وهو يدرك الأبصار .. وهو معنا أينما كنا قريب منا منتهى القرب بحيث لا نراه ..
كما لا يرى الواحد منا سواد عينيه فهو أقرب إلينا من حبل الوريد ( من الدم فى أجسادنا ).
وهو " واحد " .
هو الذى ينفعك .
وهو الذى يضرك .
وهو الذى يضع السم فى العقرب .
وهو نفسه الذى يضع العطر فى الزهرة .
هو ذات الفاعل " الواحد "  الذى يفعل كل هذه الأشياء .
هو " الواحد " ..
وهو " الأحد " ..
والأحد غير الواحد فى المعنى .
الواحد نفهم منه وحدة الفاعل رغم تعدد الأفعال وتنوعها ..
فاعلها دائماً واحد .
والأحدية هى صفة هذا الواحد .
فهو أحد .
أى لا ينقسم ولا يتجزأ ولا يمكن أن يكون له بعض أو جزء أو ضد أو ند .. ولا يجوز عليه التعدد أو التناقض أو الازدياد .
وهو لا ينحل ولا يتركب ولا ينفرط ولا يتحد ولا يتصل ولا ينفصل .
وهو أحد فى ذاته بمعنى أنه لا ينشق على نفسه ولا يتناقض ولا يتصارع .. وإنما تلتقى فيه الأضداد ( الجبار الرحيم والمعز المذل والنافع والضار ) فى وحدة مطلقة لا تضاد فيها .. ولا تناقض .. ولا تصارع .. ومن هنا كان أسمه " السلام "  و " الصمد " الساكن سكوناً مطلقاً لا اضطراب فيه رغم احتوائه على الأضداد لا حرب فى داخله رغم احتوائه على التناقض ..
فهو " السلام " .
وهو " الحى " .
أى الحى بذاته بدون حاجة إلى خالق يمنحه الحياة .. فهو الحى مطلق الحياة دون اعتماد على غيره .. بعكس حياتنا الناقصة التى لا تقوم إلا بمدد منه .
وهو القيوم الذى يقيم كل شىء حياً ويمنح الحياة للعدم .
وكل شىء يقوم بالله .
النجوم فى أفلاكها تمسكها قوانين الله فهى تقوم به , والأشجار ترفع قامتها به وبمدده من النور والشمس والرى والتربة .
ونحن نقوم كل يوم به وبمدده .
ونحن نرى به ونسمع به .. بالمواهب التى بثها فينا .. والكون كله يدين بقيوميته لله .. فهو قيوم كل شىء ..
وهو مقيمنا من الموت يوم القيامة .
وهو قائم بعنايته على كل شىء فى الدنيا من الذرة إلى الفلك فهو " قيوم " .
وهو " السميع " مطلق السمع بدون إذن وبدون أدوات .. هو السميع بذاته .
وهو " البصير " بدون عين وبدون أعصاب بصرية .. هو البصير بذاته .
وهو " المتكلم " بدون حروف وبدون كلمات وبدون لسان وبدون شفتين .. هو المتكلم بذاته يلقى إلينا بالمعانى فنسمعها على أية لغة يشاء .
وهو " الأول " قبل الزمان وقبل خلق العالم حينما كان ولا شىء معه .
وهو " الآخر " بعد أن ينتهى الزمان وينتهى العالم ويعود كل شىء إليه .. فهو " الباقى " بعد أن يفنى الكل .. فلا شىء قبله ولا شىء بعده ..
وهو " الظاهر " بأفعاله .
" والباطن " بذاته .
وهو " المنتقم " لنا لا لنفسه .
وهو " الجبار " على الجبارين " المذل " للمذلين " المتكبر "
على المتكبرين الماكر بالماكرين ومن كانت هذه صفاته كان حقيقاً بالكبرياء والعظمة .
لا تجوز الكبرياء إلا له .
له الكبرياء فى السموات والأرض .
يقول الله فى حديث قدسى :
" الكبرياء ردائى والعظمة إزارى من نازعنى فيهما قصمته " .
فهو " العظيم " بحق إذا اكتملت له أسباب العظمة .
ومع ذلك فهو المتحبب دائماً إلى أحبابه يغدق عليهم من حبه وكرمه ونعمه وحنانه فهو " الحنان المنان " .
عذابه من عيون رحمته .. فهو " الرحمن " الذى يعذب ليوقظ وينبه ويعلم .. وهو " الرحيم " الذى يمنح رحمته خالصة إذا شاء .. ورحمته دائماً سابقة على غضبه .. يرسل الرسل والنذر  والكتب ويجلو آياته بينات فى السموات والأرض لكل ناظر .. ثم بعد ذلك يكون الحساب .. يكون يوم الدين .. يوم الغضب على من يستحق الغضب .. فهو " الصبور " الذى يمهل .. ويمنح الفرض .. ويمد الأجل .. وهو " التواب الغفار لكل أواب رجّاع إليه " .
وهو " الواسع " .
واسع العلم .
واسع المغفرة .
واسع الرحمة .
هو اللانهاية والإطلاق فى كل شىء .
يقول له ملائكته : 
{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ }  ( 7 ــ غافر )

وما ينطقون إلا بوحيه وأمره وكلامه .. فهو نبع الرحمة والحنان والملهم بالمغفرة والتوبة .
سبحانه " ذو الجلال والإكرام " .
تعجز الحروف والكلمات وتنقطع العبارات عن بلوغ مقامه الأسمى حيث هو .
حيث لا حيث .
وعند لا عند .
وحيث تبهت العقول .
وتسكت الألسن .
وتجف الأقلام .
وترفع الصحف .
                     * * *
حركة الزمن والتاريخ لا تجرى فى خط مستقيم . وإنما فى دوائر .
التاريخ يعيد نفسه فى دورات .. واليوم يعيد نفسه فى أوقات متتالية من الليل والنهار والليل والنهار والفصول تتعاقب من شتاء إلى صيف لتعاودنا بنفس الطقس ونفس المحاصيل ونفس الأمراض الموسومية فى دورات مكررة من البدء والإعادة .
والإنسان الذى يتقلب هو الآخر من نوم إلى يقظة إلى نوم إلى يقظة يشعر أنه هو الآخر يدور .. يبدأ لينتهى ثم ينتهى ليبدأ ثم يعود فينتهى ليبدأ .
هذه الحقيقة هى التى فتحت ذهنه على الحقيقة البديهية .. أنه سوف يموت ليولد .. وأن الموت ليس إلا انسلاخاً عن البدن أشبه بما يشاهد حوله من انسلاخ الأفاعى من إهابها والحشرات من جلدها فى دورات متتالية تتجدد بها مرة بعد مرة .
إنها طابع الخليقة .
ونفهم الآن من القرآن أنها صفة الخالق أيضاً .
ونقرأ من أسمائه الحسنى أنه " المبدىء والمعيد " .
والمعنى الأول الذى يرد على الذهن أنه خالق الأول والآخر وأنه سوف يبعثنا بعد الموت .. وأنه لنا عودة .
والمعنى الثانى المكمل لأول . . أن هذا ناموس الخالق فى خليقته .
وأن كل شىء فى مملكته يجرى على سنن ثابتة من البدأ والإعادة ويتحرك فى دورات .
وكل معنى منهما يؤكد الآخر .. فما نراه حولنا من دورات البدء والإعادة يؤكد لنا أن الموت لن يكون خاتمة وإنما نهاية فصل ما يلبث أن يليه فصل آخر وأنه كالنوم له ساعة ننفضه فيها ونتيقظ .
وبالمثل الكلام عن البعث نرى له مصداقاً كل يوم فى بعث الخضرة والازدهار كل ربيع بعد موات الخريف .
هو " المبدىء والمعيد " . هو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه .
والأعادة دائماً أهون من الابتداء المطلق .
" هو المحيى والمميت " .
" فالق الحب والنوى " .
الحبة تنفلق لتخرج النبتة الجديدة .
والنواة تنفلق لتنبت منها الشجرة .
ونواة الخلية تنفلق مع كل دورات التكاثر لتصبح الخلية الواحدة خليتين .
ونواة الذرة تنفلق لتولد منها ذرات جديدة وتخرج طاقة هائلة الانفلات دائماً بداية الدورة وبداية الميلاد .
الفتق دائماً يأتى بعد الرتق .
{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}  ( 30 ــ الأنبياء )
أى كانتا نسيجاً واحداً ( السديم الغازى ) ثم تفتق هذا النسيج الواحد إلى أنوية كثيفة نشأت منها الشمس والأرض والكواكب بأجوائها .
هذه سنته وناموسه فى خلقه .
وهو " المبدىء والمعيد " .
وهو " المقدم والمؤخر " .
هو الذى يؤقت المواعيد لكل شىء .
وهو الذى يؤخر الآجال إلى يومها المقسوم .
وهو خالق الزمن بإطلاقه .
وهو الذى أقام الأسباب لتكون مؤدية إلى النتائج وجعل الأسباب مقدمة على نتائجها .. والنتائج مؤخرة تلو أسبابها .
وجعل الدواء سبباً للشفاء .
ولأنه هو مسبب الأسباب كان هو " الشافى المعافى " وليس الدواء , لأنه هو الإرادة المطلقة وراء الأسباب .. ولو كان الشفاء إرادته فسوف يجريه على صاحبه بالدواء أو بالجراحة أو بأى سبيل .
وإذا لم يكن الشفاء فى تقديره .. فلن ينفع طب ولا دواء .. لأنه هو الحق والظاهر جميعها وسائله الوهمية .
لكننا جميعاً مندوبون إلى التماس تلك الأسباب لأن هذه سنته التى أجراها على الأرض .
جعل الاجتهاد والعزم سبباً للنجاح .. فلا مفر لطالب النجاح من أن يلتمس بالجد والاجتهاد وشحد العزائم .
ولا يجدى أن نقول إن النجاح مقدور من البداية فلماذا نسهر ونكد .. فهذه فهم خاطىء للقدر .. لأن ناموس الله هو عين قدره .. وفى الناموس الإلهى الذى أجراه علينا أن العزم سبب ومقتضى للنجاح بالضرورة .
ثم من أدراك بأن النجاح مكتوب لك أو أن الفشل مكتوب لك .. هذا علم بالغيب لا يستطيع أحد أن يدعيه .. ومن ثم لا يصح أن نرتب عليه نتائج وهمية .
وهو " الرقيب " .. الشهيد " مطلق الشهادة يعلم اسر وأخفى .. ويعلم ذات الصدور .. ويرى " خائنة الأعين " ..
ولا يغيب عنه شىء لأنه السميع مطلق السمع والبصر مطلق البصر والعليم مطلق العلم .
وفى علم الله لا مكان للشك .. ولذا كان من أسمائه أنه " المؤمن " لأن كل مدركاته يقين وإيمان .. وهو أيضاً مناط الأمن والأمان .
وهو " الوكيل " لأنه لا شىء يتم إلا بأذنه ولأن الأمور كلها موكلة إليه . هو الذى ينفذها ويحققها .
وهو " المهيمن " لأن لا إرادة فوق إرادته ولا إراده معه .. ولا راد لقضائه ولا معقب لأمره .
وهو " الصبور " على عباده يرزقهم ويمد لهم فى الحياة وهم ينكرونه ويجحدونه .. وهو يؤجل كل شىء لوقته بلا عجلة ويقدم ما هو واجب التقديم ويؤخر ما هو واجب التأخير فى حكمة بالغة وصبر كريم .
وهو " الشكور " يجازى الحسنات بعشرة أمثالها مع أنه هو الذى ألهم عباده بتلك الحسنات وهذا غاية الفضل والتفضل .. سبحانه لا حدود لكرمه ولا نهاية لمحبته لا يستطيع الواحد منا أن يكون شكوراً لله لأنه لا يستطيع أن يحصى عليه نعمه ولا أن يحيط بأفعاله .
يقول النبى فى دعائه :
" سبحانك لا أحصى ثناء عليك .. أنت كما اثنيت على نفسك " .. إذ لا يثنى على الله على وجه الإحاطة إلا الله .. فلا يعرف الله إلا الله .. فشكرنا شكر عجز .. أما شكر الله فهو شكر علم وإحاطة وخبرة وقدرة .
والله هو " الملك " المطلق على جميع الأكوان المستغنى فى ذاته وصفاته عن كل موجود .. بينما الكل فى حاجة إليه من الذرة إلى المجرة فهو الذى يمسك كل شىء بقوانينه ويدبر كل شىء بحكمته ..
والإنسان ملك صغير .. جنوده شهوته وغضبه وهواه , ورعيته لسانه وعيناه ويداه إذا ملكها ولم تملكه وأطاعته ولم يطعها . نال درجة الملك فى عالمه الصغير ( جسده ) فإذا اتسع ملكه استطاع أن يستغنى عن الناس كلهم بينما احتاجوا هم إليه .. وأصبح الملك فى العالم الأرضى . وتلك رتبة الأنبياء .. كما يقول الإمام الغزالى .
ولكنه أبداً مفتقر إلى الله لا يخطو ولا يتنفس ولا يحيا إلا بمدد من الله .
يقول الأمير للفقير العارف بالله :
ــ سلنى حاجتك .
فيقول الفقير :
ــ أسألك ولى عبدان هما سيداك غلبتهما وغلباك وملكتهما وملكاك .
فيسأل الأمير :
ــ ومن يكونان ؟
فيقول العارف بالله :
ــ هما الحرص والهوى .
والله هو " القدوس " المنزه المبرأ من كل وصف نتصوره بخيالنا أو يسبق إليه وهمنا .. وهو ليس فقط منزهاً عن صفات نقصنا بل منزه أيضاً عن صفات كمالنا لأن كل ما يخطر لنا من صفات كمالنا هو نقص بالنسبة إلى ذاته .. والكلام عن " القدوس " بأنه المبرأ من العيب هو كلام قريب من سوء الأدب .. والحق أن نقول إنه المبرأ عن جميع ما يخطر لنا من صفات بما فيها صفات كمالنا .
والتقرب إلى الله بهذا الاسم يكون بأن تتجرد النفس من جميع حظوظها فلا تسعى إلى شهوة ولا تنقاد لغضب ولا تجرى وراء مال ولا تذل لمتاع أو طعام أو ملبس أو ملمس أو منظر ..
ولو عرضت لها الجنة ونعيمها لانصرفت عنها مشتاقة إلى خالقها .. لا يقنعنا من الدار إلا رب الدار .. وبقدر عظم المطلب تكون عظمة النفس .
ومن كان همه ما يدخل فى بطنه كانت قيمته ما يخرج منه كما يقول إمامنا الغزالى .
والله هو " الحكم " الذى أحكم كل شىء صنعاً وقدر كل شىء تقديراً فى الأزل وأقام القوانين والأسباب الثابتة المستقرة والنواميس التى تجرى الأكوان المادية على سبيلها .
كما تقوم العمارة فى البدء على شكل تصميم ومشروع وصورة ذهنية فى عقل المهندس .. كذلك كل ما يجرى فى الدنيا سبق به العلم فى الأزل .. وعمارة الكون بنيت على مقتضى الإرادة والحكمة الإلهية .. هو الذى أحكم كل شىء خلقاً ثم هدى .
وكل ما يدخل فى الوجود يدخل من باب الوجوب .. فهو واجب الحدوث بالقضاء الأزلى الذى مراد له .. فلا جدوى من الهم وعلى العبد أن يسعى إلى رزقه مطمئن النفس هادىء البال .. وليس معنى هذا أن يتكاسل ويتواكل اعتماداً على ما هو مكتوب .. فالله بين أنه لا يقضى بالنجاح إلا بأسبابه .
وفى حديث نبينا عليه الصلاة والسلام :
ــ " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " .
لا نجاح بلا عمل .
هذا عين الدستور الإلهى .
والله يقبض الحظوظ أو يبسطها حسب استحقاق كل عامل وهذا هو التيسير والتعسير .
فهو " القابض الباسط " .
الذى يقبض الأرواح والحظوظ والقلوب .
ويبسط أسباب التوفيق .
كل ذلك يجرى فى إطار من الحكمة العالية .
فهو " الحكيم " الذى يحقق أفضل الأشياء بأفضل الوسائل .
                      * * *
أنا وأنت وكل ركاب هذه السفينة الفضائية التى اسمها الأرض .. نعلم أنها تمخر عباب هذا الفضاء منذ ملايين السنين فى صحبة كوكبة من الفرسان من أبناء أسرة الشمس .. والشمس بدورها مع مائة ألف مليون شمس أخرى تؤلف مدينة سابحة اسمها المجرة .. ومثلها من المجرات مائة ألف مجرة تسبح فى طول الكون وعرضه على مدى اللانهاية من الرؤية .
نظرة فى السماء فى منتصف ليل ساج إلى هذه العمارة الكونية الهائلة سوف تثير الذهول .
إلى أين نسير .
وما النهاية .
ومن الذى خلق .
وكيف .
ولِمَ ؟
العلم يقول لنا إن هذه العمارة الهائلة على سعتها وتراميها مبنية كلها من نسيج واحد وخامة واحدة ومصممة كلها بأسلوب واحد وخطة واحدة ومحكومة بقوانين واحدة .
سوف يقول لنا العقل .. لا بد أن الخالق واحد والمبدع واحد .
فإذا أدرنا البصر عائدين إلى الأرض وأحوالها ورحنا نتأمل ما فيها من حياة ونبات وحيوان وإنسان .. وجدنا نفس الشىء .. نفس القوانين الواحدة والخامة الواحدة والنسيج الواحد والأسلوب الواحد والخطة الواحدة فى الجميع .
الذى بنى السماء .. هو هو الذى صنع ورق الشجر .. وهو الذى وضع السم فى العقرب .. والعطر فى الورد .. والعقل فى الإنسان .. وهو الذى صنع الجميع من خلايا متشابهة .. كما تبنى البيوت من لبنات واحدة .
إن وحدة القوانين المعمارية تؤكد لنا وحدة الخالق الذى انفرد وحده فى بناء كل شىء لم يشرك فى العمل يداً غير يده .
هو الله .
الواحد الأحد .
الخالق بحق لا شريك له .
ولا يصلح لنا أن نقول .. من خلقه ؟
لأن الخالق بحق لا يمكن أن يكون مخلوقاً .
هو الخالق من عدم بكلمة كن فيكون .
وكل المخلوقات كلماته .
وكلماته لا تنفد .
خلقنا فى البدء أرواحاً فى الملكوت .. وكان ذلك فى عالم الأمر .. فى عالم الكلمات .. وقبل النزل إلى الأرحام .
ثم أطلقنا وأعطانا براءة الوجود فهو " البارىء " كما يعطى الملك براءة الوسام لحامله فيصبح من حقه أن يحمله .
ثم صوّر لنا قوالبنا المادية فى الأرحام .. هو " المصور " .
وتنزلت أرواحنا إلى الدنيا بالصور التى أراها .
وتنزلنا من عالم " الأمر " عالم الكلمات الإلهية .. إلى عالم " الخلق " حيث أصبحت كل كلمة صورة .. وحيث أصبحت إرادة الله " الروح " جسداً يسعى .
وهو " الوهاب " الذى يمنح هباته وعطاياه خالصة بلا غرض سخية بلا حدود .
بينما يهب الإنسان هباته لغرض انتظار المصلحة أو دفعاً لمذلة أو التماساً لثناء أو اجتلاباً لشرف أو اكتساباً لذكر وهو يعبد الله خوفاً من ناره أو طلباً لجنته أو فى أحسن الأحوال لوجهه الكريم وهو أعظم الحظوظ فلا يوجد حظ أو عوض أو مكافأة أعظم من النظر إلى وحه الله والقرب منه والحياة فى رفقة مَلَئِه الأعلى .
فالإنسان فى جميع أحواله لا يبرأ من الغرض فلا يمكن أن يكون " وهاباً " كما أن الله وهاب .
وهو لا يعطى من عنده لأنه لا يملك  شيئاً .. بل هو يعطى مما استخلفه الله وورثه .. وهو يعطى لحدود .
وهذا هو الفرق بين صفاتنا وصفاته تبارك وتعالى .
فصفاتنا فى القيد .
وصفاته فى الإطلاق .
هو " الكريم " مطلق الكرم .. يعطى ما لا نهاية من العطايا لما لا نهاية من المخلوقات .
إذاً وعد وفى .
وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء .
لا يبالى كم أعطى ولمن أعطى .
لا يضيع من لاذ به والتجأ .
فهو الغنى عن الوسائل والشفعاء .
أعطانا فوق الكفاية وكلفنا دون الطاقة , ومنحنا سعادة الأبد فى مقابل عمل قليل فى الزمن .
يقول الإمام الغزالى أن من اجتمع له ذلك طبعاً لا تكلفاً فهو الكريم المطلق الكرم وذلك هو الله تعالى فقط .
وهو " العليم " مطلق العلم .. فعلمه غير مستفاد من الأشياء وغير حادث بالاستنباط والوسائل .. وإنما هو علم كلى قديم سابق .
وهو " العلى " علو مرتبة لا علو مكان كما يعلو العقل على الشهوة .. وكما تعلو البصيرة على العقل وكما تعلو الغاية على الوسيلة .. وكما يعلو الحلم على الغضب .. لا رتبة فوق رتبته .
وحينما نقول إنه فوق العرش .. ( ومعلوم أن العرش هو أكبر ما خلق من الأجسام والأجرام ) فإنها نعنى بهذا أنه متعالٍ فى رتبته عن كل ما هو جسم .. ولا نعنى أنه يجلس على العرش جلوس الملك .. وأنه فوق العرش بالمعنى المكانى .. فعلو الله علو معنى وعلو مرتبة وعلو قيادة وامتلاك وليس علواً مكانياً فهو منزه عن الزمان والمكان .
وهو " الحسيب " الكافى .
من كان له كان حَسْبُهُ .
إذا احتجت إلى الطعام والشراب والدواء والكساء فأنت لا تحتاج إلى غير الله بل تحتاج إلى الله فهو الذى وفر لك الحصول على كل هذه الأشياء بما خلق من نبات وحيوان وبما أودع من صفات علاجية فى الأعشاب والعناصر .
وكذلك حينما يلقم الرضيع ثدى أمه .. فإنما يتناول غذاءه من كف الرحمن فهو الذى خلق الثدى وأجرى فيه اللبن وأودع فى الأم المحبة والشفقة وهدى الرضيع إلى التقام حلمة الثدى .
وهو القادر القدير المقتدر ليس كمثله شىء فى قدرته .
وهذا هو الفرق بين مقام الإطلاق الذى يستوى عليه عرش الربوبية .. ومقام القيد والأغلال الذى نرسف فيه نحن مصفدين بقضبان الزمان والمكان والمادة .
ولهذا لا تصبح المقارنة بين صفاتنا وصفاته .
ولا يجوز أن يقوم وجه شبه بين كرمنا وكرمه و وحلمنا وحلمه ورحمتنا ورحمته وحبنا وحبه وحياتنا وحياته .
هو الله .
يعجز التصور أن يرسم له صورة .
ولا نملك أمامه إلا البهت والحيرة .
كما نرسم علامة اللانهاية فى الرياضة البحتة دون أن نستطيع أن نقيم لها تصوراً مادياً ملموساً .. لأن أمرها فى الإطلاق والتجريد .
وكذلك الذات الإلهية هى صرافة التجريد وحينما نقول إنه النور وأن اسمه " النور " . فلا نعنى بذلك نور الشمس أو نور النهار فكل هذه أنوار مادية آفلة .
ولا نور القلب .
ولا نور البصيرة .
وإنما نور الحق المطلق .
وهو نور من حيث إنه ظاهر بنفسه مظهر لغيره .. ومن حيث إنه مُخرِج الموجودات من ظلمة العدم ولا ظلام أظلم من العدم .
وهو " الحق "نستشفه من وراء الحجب المادية ومن وراء أقنعة الجسد والنفس والهوى ومن وراء زيف الظواهر الخادعة ..
فهو الحق من حيث إنها كلها باطل .
ونستشرف عليه حينما يرتقى إحساسنا إلى عتبة الروح فتطل بنا الروح على بهائه .. فروحنا منه .. نفخة منه  ومع ذلك لا يصح لنا أن نقول إن الله روح .. لأن الروح من مخلوقاته .. الروح القدس ( حبريل وروح آدم .. وروح السيد المسيح .. وروح كل منا .. من كلماته .. وأمره .. وخلقه .. والله " متعال " على مخلوقاته  .
وأى صلة بين الله ومخلوقاته هى " تنزل " .. و " تقرب " وليس اتحاداً ( فهو الأحد الصمد الفرد المفرد الذى لا يتحد بشىء ) .
وإنما تكون العلاقة بيننا وبينه هى البعد أو القرب .. والبعد يكون منا نحن وهو لا يكون بعداً فى المكان لكنه يكون بعداً بالقلب بالانشغال بسواه والغفلة عنه .
ويكون القرب بالتوجه إليه والحضور معه والانشغال به .
ولكنه معنا دائماً حيثما كنا وإن غفلنا عنه وانشغلنا بغيره .
وهو فى " معية " دائمة بنا وبجميع مخلوقاته لا يحجبه عنا إلا جهلنا .
وهو مع الكل لا يشغله شأن عن شأن ولا واحد عن آخر .
وهذه " المعية " الدائمة هى مقتضى حبه وعنايته ونحن نسير فى نوره ونرى بنوره ونسمع بسمعه .
ليس لنا من وجودنا إلا العدم .
وكما لا يصح أن نتصور علاقة الله بنا اتحاداً فإنه أيضاً لا يصح أن نتصورها حلولاً .. فالله مبرأ عن الحلول كما هو مبرأ من الاتحاد ومثله مثل النار تعطى صفتها للماء بمجرد القرب منه ودون أن تحل فيه فيصبح الماء ساخناً حارقاً مثل النار باقتراب من النار ودونما حلول .
ومثل ذلك أيضاً صورة الشمس تلمع على سطح غدير صاف دونما أن تحل فيه .
وإنما هى حالات قرب .
ويبقى الله دائماً فى علاء مطلق وفى تنزيه و تجريد . فهو  " العلى " .. " المتعال " .. له الفردانية الكاملة المبرأة عن الحلول والاحتواء فى الزمان والمكان .
* *  *
وهو " العدل " لا يتصور العدل إلا منه لأنه أحاط بكل شىء علماً .. إذا قصى بالضر على إنسان فإنه يُضَمَّن هذا الضر نفعاً وإصلاحاً وتربية .
وكل شر دنيوى يتضمن الخير فى داخله لأنه فعل رحمانى عادل .
وإذا كنا نتسخط ونتبرم ونسب الدهر ونلعن القدر كما أصابنا بمكروه فنحن فى ذلك أشبه بالطفل يسوقه أبوه إلى مشرط الجراح ليستأصل له سرطاناً قبل أن يستشرى فلا يرى الطفل فى هذا العمل إلا جانب العدوان والمجزرة الدموية التى تجهز لها السكاكين والمشارط , ولا يرى النفع الباطن فى هذا الضرر الظاهر . ويقابل العمل بزوبعة من الصراخ والاحتجاج والسب واللعن ويحكم على الأمر بأنه ظلم كله .. والأب طوال الوقت لا يحدوه إلى الرحمة .. وهو قد قضى على ابنه بهذا الضر محبة منه .. ولو أنه تركه إشفاقاً عليه لكانت هذه الشفقة ضرراً أعظم وإهلاكاً ظالماً للطفل فى غير عدل .
وبالمثل لا يستطيع أن يتصور ذلك الرجل الذى فقد بصره أو فقد ساقه .. ماذا كان سيفعل ببصره أو بساقه لو لم يصيبها ما أصابها .. ولا يستطيع أن يتنبأ بما يمكن أن يؤدى إليه فقد حاسة من حواسه إلا نبوغ ناحية أخرى أو ظهور لموهبة جديدة كانت خاملة وإنما هو ينظر كالطفل إلى الحادث مبتوراً من سياق الزمن ويكتفى بأن يحكم عليه حكماً مبتوراً .
ونحن نعلم الآن أن الأمراض تخلق فى الجسم حصانة وأن الميكروبات تنبه الجسم ليفرز مواد مضادة , وأن تداول الحر والبرد والصقيع والظروف القاسية الشاقة على الإنسان تربى فيه الجلد والتحمل .
ونحن نعلم أن الزلازل برغم ما تقتل من ألوف الأرواح فإنها تنقذ الكرة الأرضية من الهلاك وذلك بأن تزحزح الجبال فتعدها إلى موقعها .. والجبال كما نعلم هى الثقالات والأوتاد التى تحفظ القشرة الأرضية من الانفجار تحت ضغط باطن الأرض المنصهر الملتهب الذى يتمدد باستمرار مؤدياً إلى ضغوط هائلة تهدد القشرة التى نعيش عليها بالنسف .. فتأتى البراكين والزلازل بين وقت وآخر لتعيد التوازن الدقيق إلى حاله .
وفى عالم الحشرات نرى أنه كما تكاثرت حشرة وتجاوزت معدلاتها فى التناسل ظهرت لها حشرة تأكلها لتعيد التوازن إلى أصله .
هذا الميزان الخفى الذى يحكم الأحياء والجمادات يكشف عن " العدل الحكم " الذى أراد للكون الذى خلقه أن يكون نظاماً لا فوضى .
                                                                                        * * *
" الله " هو الاسم المفرد .
وهو الاسم الطلسم الذى يشتمل فى داخله على جميع الأسماء والصفات والأفعال ..
جامع الكمالات ..
وكامل الأوصاف .
وهو الاسم العلم على الذات الإلهية المسربلة بالغيب ..
جميع الأسماء تنسب إليه فيقال إنها أسما الله ..
ولا يصح أن نقول إنها أسماء الصمد مثلاً .
ولا يصح الشهادة إلا به فنقول " لا إله إلا الله "
ولا يجوز أن نقول " لا إله إلا الصبور " أو " لا إله إلا الغفار " .. فهو وحده الاسم الأعظم الجامع .
ويجوز أن تكون لنا مشاركة فى باقى الأسماء .. فيقال عن الواحد منا إنه حليم أو كريم أو رحيم أو عظيم .
ولكن لا يجوز لأحد أن يقول إنه الله .
ولا حظ لمخلوق فى هذا الاسم .. فهو اسم علَم على الخالق وحده وهو اسم قائم بذاته غير مشتق من شىء وغير قابل للتصريف .
يقول القرآن " هل تعلم له سميا " .
أى هل تعلم من تسمى بالله غير الله .
كل اسم له معنى واحد .
وهذا الاسم الأعظم لا تتناهى معانيه .
وهو اسم تنزه عن الاضداد .. فليس له ضد ولا ند
فإذا نظرنا فى حروفه وجدنا أنه يبدأ بالألف .
والألف هو استفتاح حروف المعجم ..
وهو آدم الحروف .
والثمانية والعشرون حرفاً متولدة من الألف كجميع بنى آدم من آدم .. كلها متولدة من تشكيل الألف المستقيمة بثنيها لتكون ب أو ح أو ن أو ق إلخ ..
والألف فى العدد " واحد " .. والواحد هو استفتاح لجميع أعداد وفيه إشارة لعمود التوحيد .. ومن الواحد بالتجزئة نحصل على كل الأرقام .
ويقول لنا الصوفى ابن عطاء الله فى شطحاته : إن الخلق بدأ بآدم وأنه بالمثل جاء ألف القوام معتدلاً منتصباً حسن القد والقامة على الاستقامة مخصوصاً بالتشريف والتكريم .
فإذا جئنا للحرف الثانى وجدنا اللام .
وهى إشارة إلى لام الملك " لله" .

{ لله ما فى السموات والأرض }.

{ قل لمن ما فى السموات والأرض قل لله } .

وهكذا يظل الاسم حافظاً لمعناه بعد حذف الحرف الأول فإذا حذفنا الحرف الثانى تبقى " له  " .

{ تبارك الذى له ملك السموات والأرض } .

وهى أيضاً لام ملك ثانية تدلنا على نفس المعنى فإذا حذفناها تقبى الهاء ننطقها " هو " .. حينما ننطق الاسم الكامل " الله " .

" وهو " إشارة إلى محض الغيب وهو " ذات الله " .
" وهو " .. اسم من أسماء الله يهتف به الذاكرون فيقولون : يا هو يا هو .. يا من لا يعلم ما هو إلا هو ..
وهكذا يكشف لنا اسم " الله " عن كمال تكوينه .
فهو اسم كامل يدل على المعنى فى جملته وفى أجزائه وفى حروفه ومهما سقط منه حرف بعد حرف يظل حافظً لمعناه فى النهاية .

                                                                            * * *
والذاكر يبدأ بذكر الله بلسانه نطقاً ومقالاً .
ثم بقلبه إخلاصاً واعتقاداً . ثم بعمله طاعة وامتثالا .
فإذا اكتملت معرفته لا يعود يرى إلا الله فيصبح ذكره عياناً ويقيناً ومشاهدة .. فليس فى الدنيا سوى الله .
الوجود هو الله وأفعاله ولا غير .
وهو ينظر إلى نفسه على أنه فعل من أفعال الله وكذلك إلى الآخرين .. وبذلك يغيب عنه نفسه باعتبارها ذاتاً منفصلة ولا يرى فيها إلا فعلا من أفعال الله .. وكذلك كل ما حوله .. فكل ما يأتيه فإنما يأتيه من الله وبالله وكل ما يجرى عليه فبأمر الله .
وهذه هى المعرفة عن العارف .
يقول لنا الصوفى العارف ابن عطاء الله السكندرى :
المعرفة رؤية لا علم ..
وعين لا خبر .
ومشاهدة لا وصف .
وكشف لا حجاب .
وإحساس لا مجادلة .
ويقصد بذلك هذا النور من الرؤية وهو ألا ترى فيها ترى إلا الله وأفعاله وما يجرى به قضاؤه فإذا شربت فأنت تشرب من يد الله وليس من الكوب وإذا احترقت يدك فالله هو الذى أحرقها وليس النار .. فالذى أودع فى النار خاصية الإحراق هو الله والذى أودع فى الماء خاصية الإرواء هو الله فهو الذى يسقى وهو الذى يحرق .

{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ( 79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)}ــ  الشعراء

وهو الذى إذا شاء سلب النار خاصية الإحراق فتكون برداً وسلاماً كما جاء فى قصة إبراهيم .
وهذا هو التوحيد حينما يصبح ناموس الحياة .
وهذه هى " لا إله إلا الله " حينما تصبح قلب المؤمن وروحه لا مجرد كلمة على لسانه .
فهو لا يرى بعينه ولكنه يرى بنور الله .
ولا يسمع بأذنه ولكنه يسمع بالله ويفهم بالله ويحيا بالله .
وإذا أعطى أحداً فليس هو العاطى وإنما الله هو الذى جعله وسيلة خير .. وما هو إلا كالخازن الذى يتصرف فيما لا يملك ..
وهو يعمل بهمة وإخلاص وتفان ولا يشغل نفسه بالثمرة فإذا باء بالفشل لا يحزن , وإذا نجح غاية النجاح لا يغتر .. فكلها مقادير تجرى وفق إرادة الله .
وهو لا يكسل تواكلا , ولا ينام انتظاراً للرزق , لأنه يعلم أن ناموس الله وأرادته أن نعمل , وأن الله أقام الأسباب لنلتمسها , وجعل النجاح مرهوناً بالهمة والاجتهاد .
وهو لهذا يرى فى العمل طاعة وعبادة وامتثالاً للأمر والناموس الإلهى .
وهو لا يسكت على ظلم , ولا ينام على باطل .. لأنه يعلم أن الله جعل مصارع الظالمين على يد المظلومين .. وأنه كتب على نفسه أن يكون ناصراً لمن ينصره وينصر قانونه .
فهو فى كفاح دائم .. ولكنه كفاح مختلف فى روحه ودوافعه عن كفاح الرجل الآخر الذى لا يؤمن بشىء غير نفسه ولا يرى لله وجوداً .. فهو ساكن النفس رابط الجأش مطمئن القلب , وقد اكتفى من حصته بأن يعمل وفوض النتيجة لله وأسقط حظوظه وأغراضه من الحساب , ووطد نفسه على القبول بالغنم أو الغرم مؤمناً بأن لله حكمته التى تغيب عن الأفهام , وبذلك أسقط عن نفسه القلق والهم والطمع والغرض , وأصبح عزماً خالصاً وحماساً ملتهباً لنصرة الحق بلا خوف ولا تردد ولا مطمع .
بينما الرجل الآخر الذى لا يؤمن إلا بنفسه قد حمل معه هموم تلك النفوس وقلقها وأطماعها ومخاوفها إلى المعركة .. وهو فى حالة هزيمته لا يبقى له أمل يعيش من أجله .. فهو لا يرى فى العالم حكمة ولا معنى ولا غاية غير ما يكسب لنفسه فيه , فإذا مات أمله مات معه كل شىء .
وهو أبداً فى معاناة لأنه لا يؤمن بسند إلى ذراعه وهو الذراع التى خلقت لتتعب وتمرض وتشيخ وتهرم وتنتهى إلى العجز والعطب .
وهو لهذا ينتقل من خوف إلى خوف إلى قلق إلى هم إلى يأس .. يسب الدهر .. ويلعن النجوم . ولا يرى فى الحياة إلى عبثاً وسخفاً لا جدوى منه , ويعيشها لحظة بلحظة ولذة بلذة لا يؤمن فيها بحكمة أو غاية أو قيمة تستحق أن يضحى من أجلها .
وهو يسخر من المؤمن المتدين ويتصور أنه حرم من اللذات التى يستمتع بها .. والحقيقة أن المحروم بحق هو نفسه .
هو الذى حرم نفسه من أثمن ما فى الحياة .
من الغاية والمعنى والحكمة .
ومن السند والمعين .
ومن الرحمة .
ومن المدد .
ومن ذات الحق سبحانه الذى به يعيش وبه يموت , وبه يبعث .
ولهذا يصف القرآن الإيمان بأنه إحياء للنفس :. {  أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ } ( 132 ــ الأنعام )
ويصف ابن عطاء الله التوحيد بأنه " استنقاذ للنفس من العذاب الأدنى فى الحال ومن العذاب الأكبر فى عاقبة المآل " .
ويقول الله فى حديث قدسى :
" لا إله إلا الله حصنى فمن قالها دخل حصنى ومن دخل حصنى أمن عذابى " .
والموحدون هم المقصودون بالآية :
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ  } ( 82 ــ الأنعام )
 فهم الموعدون بالأمن دنيا وآخرة .
الذين أسلموا الوجه والاختيار لله .

                                                                      * * *
والعارف الذاكر محب لله عاشق لكماله .
وشأنه شأن كل محب متعلق الفؤاد بمحبوبه  فهو يحاول أن يتخلق بأخلاقه , كذلك يحاول العارف أن يتخلق بأخلاق الله ..
فيكون الرحيم الكريم الحليم العفو الصبور والشكور الحليم العليم ما استطاع .
وهذا هو السلوك والطريق والسير على الصراط .
فأسماء الله هى الصراط المستقيم .. إلى القرب منه .. وهى دليل السير إليه ..  والقرب من الله قرب صفات لا قرب مكان وذلك بأن نقترب بصفاتنا من صفاته .
وهو طريق لا يقدر عليه إلا مجاهد يستطيع أن يجاهد نفسه ويجالدها ليغالب صفاته المذمومة .
وهو الجهاد الذى قال عنه نبينا عليه الصلاة والسلام إنه الجهاد الأكبر .. أكبر من جهاد الحرب وجلادها .. لأن جهاد الحرب معركة عابرة ... أما هذا الجهاد فمعركة متصلة طوال العمر مع كل نبضة وخلجة نفس .
ومكافأة الفائز فى هذا الجهاد أن يرتفع بنفسه إلى مستوى الملأ الأعلى وإلى مقعد الصدق عن مليك مقتدر .. فصفات الله ترفع من يتشبه بها إلى ملكوت الله .

                                                           * * *
وقد جاء المجتهدون بأسماء لله غير التسعة والتسعين المعروفة منها : المريد .. المتكلم ... الفعال .. الموجود .. الشىء .. الذات .. الأزلى ... الأبدى .. الكاشف .. الفاصل .. القاضى .. الديان ..
ومنهم من جاء من القرآن بأسماء أخرى مثل :
الكافى .. المبين .. المدبر .. المولى .. الغالب .. الناصر .. النصير .. الأكرم .. الرب .. المليك .
القريب ..  العلاَّم .
ومنهم من جاء بأسماء ثنائية مثل : قابل التوب .. غافر الذنب .. شديد العقاب .. ذى الطول .. ذى المعارج .. ومنهم من قال إن " رمضان " أحد أسماء الله .
ومنهم من تحدث عن أسماء استأثر بها الله فى علم الغيب عنده .. وقالوا إن منها " الاسم الأعظم " الذى إذا نودى به الله أجاب .
وقالوا إن هذا هو الاسم الذى نقل به آصف ابن برخيا عرش بلقيس إلى سليمان فى أقل من طرفة عين .
ومنهم من ذكر أن لله ألف اسم ..
والكلام كثير .
                                                                                                                      * * *
ومعنى الأسماء فى مجملها أنه " لا موجود بحق إلا الله " .. فهو المريد الفعال وليس فى الكون من أمر أو حدث أو قدر أو تدبير إلا هو مظهر لإرادته وأثر من أثار فعله وآية من آيات حكمته وتدبيره .
وهو الحى وكل حى لا يحيا إلا به  .
وهو الوحيد الواحد الذى له أن يقول بحق .. أنا .. " أنا هو الذى أنا " ..
أما كل منا فهو صادر عنه وراجع إليه ولا يحق له أن يقول .. أنا .. فكل منا لا يملك هذه ألـ أنا التى يدعيها .. إنما هى فضل ومنحة وهبة من الله .. أخذها على سبيل الاستعارة .
لا إله إلا الله .
لا فاعل بحق ولا معبود ولا دائم إلا هو ولا ضار ولا نافع سواه .. ونحن فى تقلبنا فى الدنيا تحجبنا الغفلة عن هذه الحقيقة .. فنتصور أن السم هو الذى يقتل وأن الترياق هو الذى يحيى .. وننسى اليد الخفية من وراء الأسباب التى قطرت السم فى ناب الثعبان وجعلت من الترياق شفاء .
ونحن نركب على السفينة ونتصور أنها تنقلنا كما نريد ونهوى .. وننسى أننا نركب على قوانين جاهزة يسرها لنا الخالق .. وأن الله هو الذى يحملنا على قوانينه وأسبابه .. وأننا كشفنا هذه القوانين بإلهامه واخترعنا وسائلنا التى ننتقل بها بوحيه وتعليمه .
وهو القائل لنوح : { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} .
وهو الذى { علم الإنسان ما لا يعلم } .
وما نسميه بالظروف والبيئة وحركة التاريخ هى جملة الأسباب والقوانين والسنن التى أجراها الخالق .. تماماً كما قدر للنجوم مساراتها وأفلاكها فى الفضاء كذلك قدر للجموع البشرية قوانين حركتها فى الزمان  .. وما نغير حينما نغير من أشكال المجتمع وعلاقاته إلا بالقوى التى أودعها فينا والبصيرة التى أمدنا بها .
يقول القرآن عن ذى القرنين {  إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84 )  فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85 ) } ( الكهف )
هكذا تحدث القرآن عن انتصارات " ذى القرنين  ليقول أن كل نصر أحرزه هو تمكين من الله وإمداد له الأسباب التى مهدت لانتصاره .
وهو كلام لا يعنى أن يقعد الإنسان عن بذل الهمة .. بل نرى أن العزم شرط لازم لجريان تلك الأسباب .
فالله جعل العزم سبباً واجباً لتحقق أى شىء .
هى قوانين شاملة وضعها الخالق فيما وضع ليجرى على سننها الكون .. وما نرى حولنا من أشكال العالم المادى هى فى جملتها مجموع الأسباب التى أقامها الخالق لتكون حجاباً على إرادته التى تعمل فى الخفاء من وراء الأسباب .
ومن وراء هذا الحجاب ذى الرقع المتعددة الألون الذى اسمه العالم المادى , هناك الذات الإلهية فى غيب الغيب .
والمؤمن الموحد لا يكتفى بهذا بل يرى أن نفسه .. أن ذاته هى الأخرى حجاب متعدد الرقع .. وأن ما يتنازعه من أهواء وشهوات ونزول إلى السلطة وحب للترف وتعلق بالماديات هى حجب وأسار كثيفة ومخاضة لزجة تبعده عن الله , عن سر السر المتعال المستخفى وراء الظواهر .. حتى عقله يسجنه فى حيثيات المنطق , وفى أسر المقولات والنظريات .. وهو لا يرى فى التعصب للنظريات إلا عبادة لأصنام مجردة جديدة .
وهو لهذا يرى أنه لكى يصل إلى الله لا بد أن يتخطى العالم المادى , ثم يتخطى نفسه , ثم يتخطى حدود عقله .. فهو فى هجرة دائمة ويقظة وانتباه يخشى أن يغفل لحظة واحدة فيضرب على عينيه حجاباً من تلك الحجب يبعده عن محبوبه الوحيد .. خالقه .. الذى جعل قبلة أسفاره وهدف رحلته فهو هارب أبداً ..
من فتنة المرأة ومن فتنة المال ومن فتنة السلطان ومن فتنة نفسه ومن فتنة عقله .. دعاؤه فى كل لحظة :
ــ اللهم خذنى إليك منى ورازقنى الفناء عنى ولا تجعلنى مفتوناً بنفسى محجوباً بحسى .
وجماع همه أن يعلو فوق نفسه ويتجاوز ذاته ومنتهى أمله أن يضحى بهذه النفس استشهاداً فى قتال , أو تفانيا فى رسالة تقربا ومحبة لذات الله التى لا دوام لغيرها .
ودليله فى التيه هى كلمة " لا إله إلا الله " ينفى بها الفعل عن الفاعل .. فلا فاعل إلا الله .
ثم ينفى الفعل عن نفسه .. فهو أول من تبرأ من انتصاره إذا انتصر .. فلا يقول .. أنتصرت .. بل يقول .. نصرنى الله .
وشعاره كل صباح :
اللهم بك أصبحت وبك أمسيت .
اللهم بك انتشرت .
اللهم بك أصول وبك أجول ولا فخر لى .
وهى كلمات إمام الموحدين وخير الوارثين لكلمة " لا إله إلا الله " محمد عليه الصلاة والسلام .
                                                             * *  *
وتخطى حدود العقل عن الصوفى المسلم ليس معناه إهدار العقل , وإنما الاستفادة من العقل إلى آخر مدى قدرته , والاستماع إلى صوت العقل حتى كل ما عنده حتى يبلغ حافة المحال , وحينئذ يستلم الصوفى بصيرته ووجدانه ليكمل الطريق .. فلا تناقض بين العقل والبصيرة , كما أنه لا تناقض بين الشريعة والحقيقة .. وإنما شأن العقل كمصباح يلقى بنوره إلى مدى معين , ثم تبدأ منطقة من الظلام لا دليل فيه إلا بنور البصيرة وهدى القلب .
كذلك تخطى الدنيا عند المسلم ليس معناه طلب الفقر وافتراش الرصيف ولبس الخرق .. وإنما تخطى الدنيا هى ألا تضع نفسك فى خدمة أموالك .. وإنما تجعل أموالك فى خدمتك وفى خدمة الآخرين .. وهى أن تملك أرضك وتسخرها للخير العام لا أن تملك أرضك وتسخرها فى تكثيرها .. وهى أن تملك زمام شهوتك وتخضعها , لا أن تكون عبدها وخادمها .. وبذلك تتخطى الإغراء فتجعله خلفك وتحت إمرتك وفى قبضتك .. وتكون سيد الدنيا لا عبدها .
أما الصوفية التى تنادى بإهدار العقل وتمجد الفقر والشحاذة ولبس الخرق على أنها الطريق إلى الله فهى انحراف بالدين وبالطريق .
ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول :
" إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " .
والدين يمجد النظافة ويدعو إلى العمل وعلى بن أبى طالب يقول عن الفقر . لو كان الفقر رجلاً لقتلته .
والمال فى القرآن مرادف للخير والنعمة .. حينما يوظف فى مكانه للنفع العام بالإضافة إلى انتفاع صاحبه . وهو نقمة حينما يكتنز بلا وظيفة سوى الشح والبخل .
والمسلم لا يرفض الدنيا .. وإنما يجعل منها مطية إلى الآخرة , ومزرعة للأعمال النافعة تلحق به بعد موته .
ومفهوم الزهد عند المسلم هو رفض الذل للمال لا رفض المال لكونه أجراً كريماً على عمل أو جزاءً عدلاً على جهد ..
الزهد هو الضن بالحياة أن تضاع فى اجتلاب الترف الفارغ .
والزهد يرضى بالكفاف ليكرس كل وقته لبلوغ أشرف المعارف .. معرفة الله ..
وكل همه وكل فكره وكل شاغله أن يعرفه .. هو  .
والزاهد الموحد لا يقول .. أنا .. ولا يقول .. أنت .. ولا يقول .. هم ولا يقول .. نحن .
بل يقول .. هو
لا يرى إلا هو .
ولا يقصد إلاّ هو .
لا إله إلا هو .
لا يخشى إلا هو , ولا يتقى إلا هو , ولا يرى فعلاً إلا يرده إليه هو .. ولا يرى ظاهراً ولا باطناً إلا هو .
فإذا أكل فهو يأمل من يد هو .
وإذا شرب فهو يشرب من كفه هو .
وإذا تلقى الرزق فمنه هو .  
وإذا تلقى الحرمان فبتقديره هو .
وإذا قضى عليه بالشقاء فبقضائه هو .. { ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}  ( 78 ــ النساء )
فإذا صبر فهو يصبر بالله على الله .
وإذا هرب فإنما يستنجد بالله على قضاء الله .
وإذا استعاذ فإنما يستعيذ بالله من الله . يستعيذ به من بلائه .. وما الشيطان فى  النهاية إلا ابتلاء الله لعباده ..
وما الكون إلا مظاهر أسماء الله وتجلياته صفاته وأفعاله . فهو لا يرى فى أى شىء إلا الله وفعل الله .وهذا مطلق التوحيد .
وهذا غاية ما تقوله الأسماء لقلب المسلم .
أن تقوده إلى مطلق التوحيد .

                                                                                                                  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق